الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


98. الموقف الثامن و التسعون

قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَ لَاعِبِينَ{16} لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ{17} بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ{18}﴾الأنبياء: 21/ 16 – 18].

أي ماكان فعلنا في خلق السماء و الأرض، وما بينهما فعل اللاعبين، الذين لا ثمرة في أفعالهم ولا فائدة ترجع من فعلهم، لا لهم ولا لغيرهم، بل ما خلقناهم إلاَّ طبق المصلحة ونهاية الحكمة، فلا ذرة في السماء والأرض إلاَّ وهي ناطقة بملء فيها، شاهدة بما فيها، من الحكم والمصالح التي لا يحيط بها إلاَّ خالقها. ويصح أيضاً: ما خلقنا ما ذكر لاعبين، أي ما كان فعلنا في ذلك فعل اللاعب، الذي يصوّر أشخاصاً وأشباحاً تقبل وتدبر، في رأي العين ولا حقيقة لها، فليس خلق السماء والأرض وما بينهما هكذا!! خلافاً للسفسوطائيين القائلين: "العالم خيال لا حقيقة له" وللحسبانيّة القائلين: "ليس وراء المحسوسات شيء يصح أن يدرك"، بل القول الحق: أنَّ صور العالم وأشباحه وراءها حق، فهي حقّة بذلك، وإن كانت في الظاهر خيالات، فهي حق، لا لعب ولا لهو، كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَمَ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾[الحجر: 15/ 85].

فهي حق بذلك الحق المخلوقة به، إذ المخلوق بالحق حق، قال إمام العارفين محيي الدين:

إنما الكون خيال

وهو حق في الحقيقة

كل من قال بهذ

 

حاز أسرار الطريقة

ويدخل في قوله: ﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ جميع أفعال العباد. فهي كلها حق لا لعب فيها ولا عبث إذ هي أفعاله تعالى. وإذا أطلق العبث على بعض أفعال العباد فبالنسبة إلى من صدرت عنه، وإلاَّ فهي ب النسبة إليه تعالى ، لا تخلو عن حكم. ثم أخبر تعالى أنه، وإن خلق السموات والأرض وما بينهما كما ذكر فليس ذلك بواجب عليه، ولا متحتّم لديه، كم تقول البراهمة والمعتزلة من وجوب فعل المصلحة عليه تعالى بل له أن يفعل كلَّ ما أراده، جوّزته العقول أو أحالته، فقدرته مطلقة التصرف، نافذة الحكم في كل م أراد، ليس عليها تحجير ولا يلحقها عجز، كما قال: ﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً﴾[الأنبياء: 21/ 17].

أي نخلق خلقاً من أنواع ما أحالته العقول علينا، وحجرته عن قدرتنا: ﴿ لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا﴾.

أي من جهة قدرتنا، فإنه لا يعجزها شيء أردناه، لكننا ما أردناه، كم قال: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾[الزمر: 39/ 4].

فأخبر أن هذا المحال العقلي الذي هو أعظم محال يتصوّر، هو ممكن تحت قدرته، يفعله لو أراده، فأدخله تحت "لو" ولا يدخل تحتها إلاَّ ممكن في نفسه. وأمَّا قوله "لم يلد" فهو إخبار بأن هذا ما كان ولا يكون، وم أخبر أنه لا يدخل تحت قدرته، وأنه عاجز عنه لو أراده؛ وقد قال الحافظ ابن حزم بقولنا هذا، فنسبه الشيخ السنوسي إلى الكفر،  وما كان ينبغي له ذلك؛ وابن حزم قال به على طريقة المتكلمين لا على طريقتنا. ثم ذكر تعالى نوعاً من أنواع المحال العقلي وهو تحصيل الحاصل، فإنه من أجلاها، فأخبر أنه يفعله، بل هو فعله في كل آن فرد على الدوام، وعبّر بالمضارع استحضاراً لهذه الأعجوبة عند العقل وهو قوله: "نقذف" الخ الآية، فـ "بل" إضراب عما تخيلته العقول، من استحالة هذا وتحجيره على القدرة الإلهية، "نقذف" نرمي بالحق النور الوجودي الإضافي الساري في كل موجود، وذلك كناية عن اقتران الوجود الحق، بالعين المراد إيجادها على الباطل العدم، الذي كان وصفاً لتلك العين. فيدمغه: فيهلكه ويذهبه كما يهلك المضروب في دماغه، كناية عن السرعة، بمعنى يهلك النور الحق العدم الباطل، ولا يبقي له حكماً في تلك العين، ويصير الحكم للوجود الحق فيصير الوجود الحق وصفاً لها بعد أن كان العدم الباطل وصفاً لها، فإذا هو : أي العدم المكنَّى عنه بالباطل زاهق، أي ذاهب الحكم، بعد أن كان ثابت الحكم في تلك العين، حيث كان وصفاً لها "فإذا " فجائية، هو زاهق إذ لا يجامع الحق الباطل، كما ل يجامع النور الظلمة. ففي الآية تحصيل الحاصل، إذ العدم معدوم لذاته فإذهابه تحصيل لما هو حاصل، وفعل لا مفعول له، والعدم قبل اتصاف الغين بالوجود كان له وجود في علم الواصف، فإنه ما حكم على العين بالعدم إلاَّ بعد التصور، فللعدم وجود في هذه المرتبة، فصحَّ الرمي عليه، والإزهاق له بما ذكرناه. وكل من زعم أن الله تعالى لا يقدر على المسمّى محالاً فما عرف الله، بل ما شمَّ لمعرفته رائحة، فهو قادر على إيجاد المحال إذا أراد، ومن المحال العقلي اجتماع الضدين في محل واحد في آن واحد، وذلك موجود في حركة الأفلاك التي هي ضمن الفلك الأعظم محدّد الجهات، فإنها تتحرك عند علماء الهيئة حركة طبيعية من المغرب إلى المشرق، فكل فلك له حركتان على هذا: طبيعية وقسرية في آن واحد، وهذا محسوس في الحيوان كالنملة مثلاً، إذا كانت على شقة الطاحون العليا، وكانت حركتها ضد حركة الطاحون فإنها تجتمع لها حركتان قسرية واختيارية، وأكثر أمور البرزخ والآخرة مما تحيله العقول، قال تعالى، في حق الشهداء: ﴿ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾[آل عمران: 3/ 169].

ونهانا أن نظن أنهم أموات والحس يشاهدهم أمواتاً، ولاشك عنده في ذلك، فالقائل أموات صادق شاهده الحس، والقائل أحياء صادق شاهده الإيمان، بصدق الله تعالى في إخباره. فهم أحياء أموات في حالة واحدة ولو لم يجتمع الموت و الحياة ما صدقا، وكذ سؤال القبر من هذا المعنى، وكذا الفعل الصادر من العبد ببادئ الرأي، هو فعل الله تعالى وفعل العبد، فالعقل والشرع يثبتان الفعل لله تعالى وحده، و الحس والشرع يثبتان الفعل للعبد، وكلا الأمرين يصدق القائل بهما، ويجب الإيمان بهم معاً، ونحن ليس كلامنا مع من يقول: نسبة الفعل إلى الله غير نسبته إلى العبد، و كذلك يوم القيامة هو على الكافر مقدار خمسين ألف سنة بنص القرآن، وعلى المؤمن مقدار صلاة ركعتي الفجر بنص الحديث، وخصّ الركعتين بالفجر لأن الأمر ورد بقصر القراءة فيهما، وكذلك تجسّد الأعمال ووزنها وهي أعراض يوم القيامة. بل الأعراض هي اليوم متجسّدة قبل يوم القيامة، والناس يشهدونها ولا يعرفونها، ومن الناس من ينكر تجسد الأعراض، حتى في يوم القيامة، ومن الناس من يقول بها هنالك، وينكره هنا.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!