الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


63. الموقف الثالث والستون

قال تعالى: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾[مريم: 19/ 17].

ورد في صحيح مسلم: تجلي الحق تعالى لأهل المحشر، وتحوله في الصور. وفي الصحيح المتواتر أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يرى جبريل في صورة دحية، ويعرفه أنه جبريل، والصحابة يجزمون أنه دحية، وهذا هو التجلّي الذي أنكره علماء الرسوم المحجوبون على العارفين (رضي الله عنه) ورموهم بالحلول والاتحاد. ولو أنصفوا م أنكروا ما جهلوا، لأن الحكم على الشيء تصويباً وتزييفاً فرع من تصوره. وهم ما تصوّرو التجلي والشهود، على ماهو عند القوم (رضي الله عنه) فما ردَّ علماء الرسوم إلاَّ باطلهم الذي تصوروه في أنفسهم، تصوّروا باطلاً وردّوا باطلاً، إذ القوم (رضي الله عنه) لا اثنينيّة عندهم، ولا يقولون بوجودين قديم وحادث حتى يتّحد أحدهما بالآخر أو يحل فيه، فحقيقة الوجود عندهم لا تتعدد ولا تتجزأ ولا تتبعّض، وهي مابه وجدان الشيء وتحققه التحقق الذي له بالذات. فا لأشياء كلها من عالم الأرواح والأجسام وعالم المثال والمعاني، المجرّدة العقلية، لا تظهر ولا تتعين إلاَّ بظهور الوجود الحق فيها، من غير حلول ولا اتحاد ولا اتصال، ولا انفصال؛ كما أن الوجود الحق ل يظهر ولا يتعين إلاَّ بمخلوقاته. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى العالم، إذا لم تكن الشمس مشرقة عليه، وظاهرة لديه، كان كالعدم لا وجود له في الأعيان، ولا يتميز بعضه عن بعض. فإذا أشرقت عليه الشمس ظهر للأعيان، وتحقق وجوده وتميز بعضه من بعض. وظهور نور الشمس في أجزاء العالم، ليس بحلولها فيه، ولا اتصالها به، ولا انتقالها، ولا بتغيرها عمَّا كانت عليه، ولا بانفصال بعضها عنها. ولولا أجزاء العالم ماظهر نور الشمس ولا تعيّن لو قدرنا ارتفاع العالم وعدمه. وكذا الوجود الحق تعالى ـ، ل وجود لمخلوقاته إلاَّ بإشراق نوره عليها، ولا ظهور له ولا تعين إلاَّ بها. وظهور نور الشمس وإشراقه على أجزاء العالم يختلف بحسب صفات قوابلها واستعداداتها وهو شيء واحد غير متعدد، ولا متجزئ، ولا متلون، وإنما عددته ولونته أجزاء العالم بحسب صفاتها، وكثافتها ودنسها، وشفافيتها. فتجلي الوجود الحق على العالم كله واحد، ل فرق بين جليل وحقير، وصغير وكبير، ولكن لا يظهر في صورة إلاَّ بحسب قابليتها.

مثال آخر للتجلي والشهود الذي دلَّت عليه الآي والأحاديث: الشمع إذ صورت منه صورة إنسان أو حيوان ثم أحضرت لدى جماعة فيهم عقلاء وجهال وصبيان، فالجهال والصبيان لا يقع إدراكهم إلاَّ على الصورة، ولا يتأملون إلاَّ فيها، وفي تخطيطه وتشكيلها، وأعضائها.... غافلون عن الشمع الذي هو مادتها وبه قامت وظهرت حتى صارت تتعلق بها الإدراكات الحسية. وأما العقلاء فإنهم ينظرون الصورة كما ينظرها غيرهم، ويتعدّى نظرهم إلى الشمع الذي قامت الصورة به وتعينت، ويعرفون أنَّ الصورة من حيث هي، لول الشمع أظهرها ما ظهرت ولا وقع عليها إدراك، لأنه لو كان لها وجود مستقل منفصل عن وجود الشمع لكان يصح أن تنفصل عن الشمع وتبقى على ظهورها، وتتعلّق الإدراكات بها، وذلك محال. فثبت أن الوجود والظهور للشمع وإن ظهر بالصورة، أي متلبساً بها، فالظاهر هو، والصورة خيال، إذا فتشتها لا تجدها شيئاً مع إطلاق الحقيقة الشمعية وتقييده بالصورة، وبتلك الهيئة والشكل والتخطيط. فلو فرض أنَّ ا لحقيقة الشمعية تكيفت بكيفية إرادية، من عدم الظهور بتلك الصورة المخصوصة، وظهورها بصورة أخرى، أو بعدم الظهور مطلقاً، انعدمت تلك الصورة التي كان ظاهراً بها، مع بقاء الحقيقة الشمعية على حالها من غير تغيير ولا زيادة ولا نقص. ولا يصح أن يقال: الصورة حلّت في الشمع، ولا اتّحدت به، ولا امتزجت... إنَّ هذه الأمور إنما تقال على شيئين مستقلين بالوجودية، وليس إلاَّ شيء واحد وهو الشمع مثلاً، والصورة ليست بشيء.

والقوم (رضي الله عنه) لا يثبتون الوجود إلاَّ لشيء واحد، وهو المقوم القائم على العالم جميعه جواهره وأجسامه وأعراضه، والعالم كله أعراض عندهم، بمعنى أنه كالعرض القائم بالجوهر عند المتكلمين. ولو أدركنا الصور بحواسنا تتكلّم وتفعل أفعالاً مختلفة، فإنما ذلك لتعلق إدراكنا بالصور، دون نفوذ إلى بواطنها وحقائقه التي الصور فيها بمثابة العرض في الجوهر. ولو عرفنا حقيقة الأمر لعرفنا أن الأفعال كلها للحقيقة المقوّمة للصورة. لأنَّ الأفعال والكيفيات كلها تابعة للوجود. وقد ثبت أنه لا وجود إلاَّ للحقيقة المقوّمة للصورة. والصور عدم متخيّل وجوده. غير أن الصور ظهرت لظهور الوجود الحق ملتبساً بها إذ ظهوره بلا صورة متخيّلة محال، لأنه لا صورة له. فظهرت به وظهر بها مع عدمها. ولا يقال في الورة أنها عين ما قامت به، لأنه عدم، والمقوّم لها وجود، ولا يكون العدم عين الوجود، ولا أنها غيره، لأنَّ الغيرين عند المتكلمين أمران وجوديان، وليس إلا وجود واحد، لا قديم ولا حادث، وإذا قيل: إنه غير، فهي غيرية اعتبارية لا حقيقية. وكذا إن قيل: إنها عين؛ بمعنى أنَّ الظاهر عين المظهر فهو مجاز أيضاً، لأنها شؤونه في مرتبة التعين الأول، فلا يقال: إنها عين ولا غير، وإن قيل في مرتبة الظهور، إنها أحكام الاستعدادات، أعني الصور وما يتبعه من الأحكام.

زيادة إيضاح : إن الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في العلم، ول وجود لها أزلاً وأبداً، وإنما لها الثبوت. ولو وجدت، لكان قلباً لحقيقتها. وقلب الحقائق محال. فكلّ ممكن، له حقيقة وماهية في العلم، وليست غير العلم، ولا العالم، لأن علمه عين ذاته، عند المحقّقين، فإذا أراد الحق تعالى أن يظهر بأحوال عين من الأعيان الثابتة، ويظهرها، توجه بإرادته وكلامه على تلك العين الثابتة فكانت هذه الصورة المحسوسة، وهي معان اجتمعت فكانت منها صورة قائمة بنفسها في بادئ الرأي والتخيل، وهي نسبة بين الوجود الحق وبين عينها الثابتة التي كان التوجه إليها من الوجود الحق. والنسب كلها أمور اعتبارية لا موجودة ولا معدومة، فوجودها إنما هو في اعتبار المعتبر مادام معتبراً، وفي عقل المتعقل كسائر الأمور المصدرية، فهي مثل الصورة الظاهرة في المرآة فلولا المرآة والمتوجه على المرآة، ما ظهرت الصورة في المرآة، والصورة خيال لا حقيقة له، وإنما نسبنا الوجود للصورة مجازاً لكونها م ظهرت إلاَّ بتوجه المتوجه على المرآة، وهو الوجود، فالعالم كلّه، بما فيه الصور الحسيّة والخيالية والعقلية ظلَّ لأعيانه الثابتة من جهة الصورة المقيّدة، وظل للوجود الحق من جهة الوجود، وتوابع الوجود من الأفعال والإدراكات. فقاصر النظر الجاهل الذي لا يرى إلاَّ الظل، وأما من يرى ذا الظل، حيث نفذ نظره من الظل إليه، فإنه يعلم الأمر على ماهو عليه، ويعرف أن ذا الظل هو الفاعل للأفعال كلّها، والظل تابع له لا استقلال له بشيء أصلاً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!