الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


272. الموقف الثاني والسبعون بعد المائتين

قال تعالى آمراً للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم): ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾[غافر: 40/ 55].

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }غافر55

قال: ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾[النصر: 110/3].

لا يقال الرسل عليهم الصلاة و السلام معصومون من المعاصي، فكيف أمروا بالاستغفار؟! لأنا نقول: استغفار الأنبياء ليس هو من مقارفة الذنوب والمخالفات كغيرهم، وإنما استغفارهم: بمعنى طلب الغفر، وهو الستر عن المخالفات، و لحيلولة بينهم وبينها فلا يلابسونها، لا يقال في هذا طلب تحصيل الحاصل، وهو محال لأنا نقول: العصمة للأنبياء ليست باللغة مبلغ القسر والإلجاء، فيكونون مضطرين مسلوبين الاختيار والكسب، فإنهم مكلّفون منهيون مأمورون، مثابون، على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، ولا يكلّف ويثاب إلاَّ فاعل مختار، وإنما أمرهم بالاستغفار، بالمعنى الذي ذكرناه، وهو استغفار خاصّة الخاصة، المشار إليه بدعاء الملائكة بقولهم: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾[غافر: 40/9].

والثاني: استغفار الخاصّة، وهو طل بالغفر والستر، بمعنى عدم الفضيحة. وإذا انتفت الفضيحة بالذنب انتفت المؤاخذة به لا محالة. وهذا النوع هو المشار إليه في تفسير العرض، الوارد في الصحيح، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) قال يوماً:

((من حوسب عذب)).

فقالت عائشة رضي الله عنهما وكانت ما سمعت شيئاً إلاَّ راجعته حتى تفهمه:

﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً﴾[الانشقاق: 84/8- 9].

فقال (صلى الله عليه وسلم) : ((يا عائشة، ذلك العرض، وإلاَّ فمن نوقش الحساب يهلك)) .

وصفة العرض هو أن يضع الحق تعالى كنفه على عبده المؤمن، فلا يراه نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرب، فيقرره الله بذنوبه، فلا يسعه إلاَّ الإقرار، فيقول له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ويؤمر به إلى الجنّة، فيمرّ على أهل المحشر فيقولونك ما أسعد هذا!! لم يعص الله قط.

والنوع الثالث استغفار العامّة، وهو طلب الستر عن العقوبة والمؤاخذة بالذنوب، لا يبالون بالفضيحة، بين الخلائق، وبعد كتابة هذا الموقف ألقي علي في الواقعة:

﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾[سبأ: 34/15].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!