الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


200. الموقف المائتان

روى مسلم في صحيحه وغيره: ((إنَّ الحق تعالى يتجلى لأهل المحشر، فيقول لهم أنا ربكم، فيقولون: نعوذ ب الله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا جاءن ربنا عرفناه، ثم يتحول لهم في صورة أدنى من الصورة التي كانوا رأوه فيها، فيقول لهم: أنا ربّكم، فيقولون: نعم. أنت ربّنا)). الحديث بطوله.

اعلم أنَّ الناس في تحوّل الحق تعالى في الصور ثلاث فرق: فرقة تنكره في الدنيا والآخرة، وتؤوّل الأحاديث الواردة في التحول في الصور إلى أمور تليق بعقولهم وهم علماء الظاهر؛ وفرقة تنكره في الدنيا وتقره في الآخره، تفويضاً، على مراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعلى ما يليق بجلاله تعالى من غير تأويل، وهم عامّة السلف الصالح، وفرقة تقره في الدنيا والآخرة من غير حلول ولا اتحاد ول امتزاج، ولا تولّد، مع اعتقاد ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 7/ 11].وهم العارفون بالله تعالى ، أهل التجلي والشهود في الدنيا. فإن كنت سالكاً طريقهم فأي صورة أشهدك الله تعالى نفسه بها أو عندها أو فيها فهي صورة تحول لك الحق تعالى فيها من غير حلول ولا اتحاد، وأي صورة لم يشهدك الحق تعالى نفسه به أو عندها أو فيها فهي صورة احتجب الحق تعالى عنك بها. ولقد رأيت سائلاً في الجامع، كلّما وقف على إنسان يسأله يقول: لا تقصد إلاَّ الله، فقلت: هذا السائل، إمَّ أن يكون من أهل هذا الشأن، وإمَّا أن يكون الحق تعالى أجرى على لسانه هذه الحكمة العظيمة. فيلزم السائل سواء سائل الدنيا أو سائل العلم أن لا يسأل إلاَّ الله، من كل صورة مسؤولة، فإنه لا ي عطي السائل مطلوبه إلاَّ هو تعالى، فلا يسأل إلاَّ الله تعالى ولا يأخذ إلاَّ منه تعالى . ويُروَى أن عارفاً كان يسأل، فأعطاه عارف شيئاً وقال: خذه لا لك، فقال السائل: آخذه لا منك، والتحوّل الوارد في الحديث هو لأهل الحشر الخاص والعام منهم، ينكره العوام أولاً، لأن كل واحد منهم م عرف إلاَّ مقيداً بالصورة التي اعتقده عليها حسية أو معنوية، ويعرفه الخواص العارفون به في الدنيا لأنهم عرفوا إلهاً مطلقاً مجرداً مجرداً عن جميع القيود والحدود، فلا يجهلونه في شيء من تجلياته، عرفهم ذلك ذوقاً اختصّهم، فاقتطعهم عن الخلق بسببه:

لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده

 

ولا الصبابة إلاَّ من يعانيه

من ذاق طعم شراب القوم يدريه

ومن دراه غداً بالنفس يشريه

والتحول في الصور في الدنيا والأخرى إنّما هو في نظر الناظر، وإلاَّ فجلّ الحق تعالى أن يتحوّل أو يتغيّر أو يتبدّل أو تحدث له صفة لم يكن عليها.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!