الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


14. الموقف الرابع عشر

قال تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾[الفاتحة: 1/ 6].

ألقي عليَّ وأنا في صلاة الصبح أن الهداية على الصراط المستقيم جنس ل نهاية لأفراده، لأنَّ الحقَّ تعالى أمر عباده بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، في كلّ ركعة من ركعات الصلاة، الفريضة والنافلة، وفي غير الصلاة، والهداية هي العلامة على المقصود. والمستقيم هو صراط أهل معرفته تعالى ومعرفته تعالى لا نهاية لها، لأنَّ معرفته هي معرفة كمالاته. وكمالاته تعالى لا نهاية لها. ولذا قال بعض العارفين: «السير إلى الله تعالى له نهاية، والسير في الله لا نهاية له»، يشير إلى هذا فالهداية المأمور بطلبها لا نهاية لها، إذ من المحال أنه تعالى ما أجاب أحداً من الطالبين للهداية بشيء من الهداية. ومحال أنه أجابهم بجميع الهداية، لأن الأمر بطلب تحصيل الحاصل محال، فتبين أنه تعالى أجاب بعض الطالبين للهداية، ببعض أفراد الهداية، وأمرهم بطلب الزيادة منها على الدوام. ولذ قيل لأهدى الخلق: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾[طه: 20/ 114].

والمنعم عليهم هم الذين أراهم الحق تعالى حقائق الأشياء، كما هي. ولذا قال عليه الصلاة والسلام في دعائه: ((اللهم أرني الأشياء كما هي))

فانكشف عنهم الغطاء، وتقشّع سحاب الجهل،  بطلوع شمس المعرفة لقلوبهم، فعرفوا الحق والخلق، معرفة يقين، لا يدخلها شك، ولا تتطرق إليها شبهة، حتى صار الغيب عندهم شهادة، وهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وورثتهم السالكون طريقهم.

والمغضوب عليهم هم الطوائف الذين ما عرفوا معبودهم ولا تصوّروه إلاَّ بصور محسوسة من نور، وشمس وكوكب، ووثن وصنم.

والضّاليّن بمعنى الحائرين، لأنَّ كل ضال حائر، فهم الناظرون في ذات الله بعقولهم، من حكيم فيلسوفي ومتكلم، فإنهم ضالون حائرون، في كل يوم، بل في كل ساعة، يبرمون وينقضون ويبنون ويهدمون ويجزمون بالأمر بعد البحث الشديد والجهد الجهيد، ثم يشكون في جزمهم، ثم يجزمون بشكهّم، ثم يشكون في شكهّم.. وهكذا حالهم دائماً بين إقبال وإدبار، وهذه حالة الحائر الضال. وقد نقل عن إمام الحرمين زعيم المتكلمين رضي الله عنه أنه قال: «قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألف، وخليت أهل الإسلام وإسلامهم وعلومهم. وخضت في الذي نهى الشرع عنه، وركبت البحر الخضم... كل هذا في طلب الحق، وهروباً من التقليد. والآن رجعت إلى كلمة: «عليكم بدين العجايز» فالويل لابن الجويني إن لم يدركه الله بلطفه». ونقل عن فخر الدين الرازي إمام المتكلمين، أنه قال عند الموت: «اللهم إيماناً كإيمان العجائز»، ومن شعره يتأسف على ما فاته:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرن

 

سوى أنجمعنا فيه قيل وقالو

إلى آخر ما قال. وأنشد محمد الشهرستاني، في كتابه "نهاية العقول" وهو كتاب ما ألف مثله متكلم:

لعمري لقد طفت المعاهد كلّه

وسرّحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلاَّ واضعاً كف حائر

 

على ذقنه أو قارعاً سن نادم

فهؤلاء فحول المتكلمين، انظر إلى حيرتهم وضلالهم. فكيف تكون حاله من دونهم؟! ولهذا ترى طوائف المتكلمين يلعن بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً بخلاف أهل الله تعالى العارفين به فإنَّ كلمتهم واحدة في توحيد الحق وأمرهم جميع، كم قال تعالى: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 42/ 13].وأما الحيرة الحاصلة للعارفين فما هي الحيرة الحاصلة للمتكلمين. وإنما هي حيرة أخرى حاصلة من اختلاف التجلّيات وسرعتها وتنوّعاتها وتناقضها. فلا يهتدون إليها ولا يعرفون بما يحكمون عليها. فهي حيرة علم لا حيرة جهل.فلا تقاس الملائكة بالحدادين.

وفي قوله تعالى: ﴿ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾[الفاتحة: 1 /7 ].

تعريف لهم بأنه إنما أتى عليهم منهم، حيث حول الإسناد إلى بناء المجهول. وما قال: "الذين غضبت عليهم" ولا قال: "الذين أضللتهم". كما قال: ﴿أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ [الفاتحة:1/ 7].

فأصل النعمة منه تعالى وهو سببها، وأصل الغضب من المغضوب عليه وهو سببه، فما كان أصله وسببه القديم تعالى فإنه لا يزول، وما كان أصله وسببه الحادث فإنه يزول، أفهم ما أومأنا إليه، ففي الآية جبر لكسرهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!