الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


135. الموقف الخامس و الثلاثون بعد المائة

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾[لقمان: 31/ 20].

اعلم أن نعم الله تعالى على عباده عامة وخاصّة، وخاصّة الخاصّة، فهي أنواع ثلاثة دنياوية محضة وأخروية محضة، وممتزجة. فالدنيوية هي قوله: سخّر لكم مافي السموات ومافي الأرض من ملك وفلك وريح وسحاب ومعدن ونبات وحيوان. فالعرش وم حوى ساع فيما يتنعم به الإنسان في دنياه، وهذه عامة لجميع بني آدم مُؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم. والأخروية هي قوله: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾

أي جعل نعمه عليكم سابغة، وافرة ظاهرة، بإرسال الرسل وإنزال الوحي الجبرائيلي بالشرائع والأحكام، التي هي وظائف الأعضاء والقوى الظاهرة وحليتها الموجبة للسعادة الدائمة، والنعيم الأبدي بالتمتع بالجنان وبما فيها من القصور العالية، والحور الغالية، وكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ظاهر لظاهر، وهذه النعمة خاصة باتباع الرسل (عليه السلام) وهي أخروية محضة. وعليه فالآية صريحة في أنه تعالى لا يجب عليه إرسال الرسل ولا الصَّلاح والأصلح كما قالت المعتزلة، بل هو متفضّل بذلك، إذ لو وجب عليه شيء من ذلك ما امتّن به ولا تمدّح به تعالى ـ، لأن أداء الواجب ل امتنان ولا تمدح به.

و﴿ وَبَاطِنَةً﴾ فهذه هي النعمة الممتزجة بالدنيا والآخرة، وهي بإرسال رسل الإلهام بالعلوم اللدنية، والمعارف الكشفية، والحقائق الغيبيّة، إلى قلوب ورثة الأنبياء، وهم العلماء العارفون المتحققون بالاقتداء بالأنبياء، (صلوات الله وسلامه عليهم) في أفعالهم وأحوالهم، فتتحلّى بها أرواحكم، وقلوبكم، ونفوسكم، كم تزيّنت ظواهركم بالوظائف الشرعية الظاهرة؛ وهذه العلوم والمعارف توجب السعادة الروحيّة والقلبية، ودوام التلذذ بشهود الجمال الحقيقي و المتع بشهود التجليات المتنوعة باطن لباطن؛ وهذه النعمة في الدنيا والآخرة لمن أنعم الله عليهم بها، فهي نعمة خاصة بخواص عباد الله.

وقد جعل الله تعالى بين ظاهر الإنسان وباطنه اتصالاً معنوياً غيبياً، فإذا قامت الأعضاء الظاهرة بما كلّفت به من الطاعات على وجهها المشروع، وتحلّت بالأعمال الصالحات انّعكس من تلك الأعمال نور إلى القوى الباطنة، فتقوت أنوار الباطن؛ وإذا قامت القوى الباطنة بوظائفها من المراقبة والحضور والآداب المطلوبة منها انعكس من ذلك نور إلى الأعضاء الظاهرة فاستحلت ظواهر الطاعات، واستلانت مشقّة العبادات، ودأبت على نوافل الخيرات، فصار كل واحد منهما للآخر سنداً، وعضداً ممدّاً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!