الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


133. الموقف الثالث والثلاثون بعد المائة

ورد في الصحيح، أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان))

اعلم أن التغيير باليد هو للسلطان والحكام، الذين جعل لهم ذلك. والتغيير باللسان هو للعلماء، الذين عرفوا بالعلم و التظاهر به بين العوام. والتغيير بالقلب هو لعامّة المؤمنين العارفين بالمنكر، وهو أن يكره بقلبه هذ الفعل أو القول المنكر في الدين، فإن هذا من إيمانه بما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) وإمَّا من لم يكن في هذه الطوائف الثلاثة، وهو المشاهد للفاعل الحقيقي، فإنه لا يلزمه ذلك. إذ في تغيير الحكام باليد، و العلماء باللسان فائدة تعود على العموم، وعلى المتلبس بالمنكر؛ وأما التغيير بالقلب فلا فائدة فيه، إلا للمؤمن العامّي، لتصحيح إيمانه، باعتقاد حرمه المنكر، حتى لا تميل إليه نفسه، حيث أن عدم التغيير بالقلب ما هدم ركناً من الشريعة، ولا أباح محرماً، قال إمام العارفين محي الدين، عندم تكلّم على سرّ العدد: "إنْ كان الإنسان يحارب هوى نفسه فيغلّب الزوج على الفرد (يعني يغلّب شهود رب وعبد،  على الفرد، الذي هو شهود ربّ فقط)، وإن كان يحارب هوى غيره فيغلّب حكم الفرد، على حكم الزوج يعني شهود ربّ فقط إظهاراً للتوحيد، وقال بعض العارفين: من نظر للعصاة بنظر الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم، فإن من حصل على التوحيد الخاص وعلم قوله تعالى: ﴿{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات: 37/96].

وقوله: ﴿لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ﴾[البقرة: 2/264].

وقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ﴾[الأنفال: 8/17].

وقوله: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾[الإنسان: 30]. و[التكوير: 81/ 29].

وقوله:؛ ﴿الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾[الأعراف: 7/ 54].

وقوله: ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾[النساء: 4/ 78].

وغير ذلك ممّا يدل على انفراد الحق تعالى بالفعل، عَلِمَ عِلْمَ ذوق وشهود، ولا تغيير ولا تخمين، علم أن المخلوقات ظروف لما يخلقه الله تعالى فيها من الأفعال والأقوال والنّيات ليس بها من الأمر شيء، وإن كانت مخاطبة مكلّفة مأمورة . وحينئذٍ لا يغار لله ولا لنفسه، إلاّ أن يكون من ذوي السلطنة والحكم، أو من العلماء المتظاهرين بالعلم عند العوام، أو من عامة المؤمنين فيغيّر اتباعاً وامتثالاً لأمر الشارع، لما علمه المشرّع من المصلحة في ذلك، فإن لم يكن واحد من الثلاثة فتغييره إثبات للشركة في الفعل ونفي للتوحيد، فإن التوحيد يمنع من تغيير القلب، فإنه إنكار الفعل على الفاعل، وما ثمَّ من يغير عليه لأحدية العين الفاعلة لجميع الأفعال المنسوبة إلى العالم. فلو كان هناك فاعل غير الحق تعالى لم يكن توحيداً، إذ موجب التغيير بالقلب إنما هو الفعل، ولا فاعل إلاَّ الله تعالى . وهذه المسألة من أشكل المسائل عند القوم (رضوان الله عليهم) ولكن العارف الأديب يعرف المواطن و الأحوال، وما يستحقه كل موطن ووقت، فيوفي كل موطن ووقت ما يقتضيه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!