الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


126. الموقف السادس والعشرون بعد المائة

روى مسلم في صحيحه، أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: ((إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله تعالى في كل يوم مئة مرة))، وفي طريق ((في اليوم أكثر من سبعين مرة))، وفي رواية((حتى أستغفر الله)).

وقد تكلم الناس على هذا الحديث في القديم و الحديث، من علماء الشريعة وعلماء الحقيقة، وكل واحد أنفق بحسب وسعه وماله، وأنبأ عن استعداده وحاله، وقال العارف الكبير سيدي أبو الحسن الشاذلي (رضي الله عنه) سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن هذا الحديث، فقال لي: يا مبارك!! هو غين أنوار، لا غين أغيار، ولم يزد شيئاً. وأنا أشرح بعض ما دلت عليه هذه الجملة، التي هي من جوامع الكلم، ولباب الحكم، وأمَّا استيفاء مادلت عليه على الكمال والتمام فلا تسعه مجلدة ولا مجلدتان. فأقول:

الغين يطلق على الرين، وعلى ما يغشى القلب من الشهوات، وعلى التغطية. والمراد هنا المعنى الأخير، أ خبر (صلى الله عليه وسلم) أن أنوار القرب، الموجبة للفناء بالمشاهدة والمحق كانت تغطي قلبه الشريف تغطية لائقة ومناسبة لمقام النبوّة، بحيث لا يخل بأقلّ القليل، ممّا يطلبه الحق أو الخلق. و المراد بالقلب هنا العقل، فإنه المدبّر للمملكة الإنسانية، وبه يكون القيام بحقوق الخلق و الحق. فإذا غطَّى عليه لم يبق هنالك شعور بغير، لا من نفسه ولا من غيره، ولا إدراك لرسالة ولا لمرسل إليهم، فإنه في هذه الحالة تنتفي الغيرية، وتزول الأثنينّية، فيتحد المطلق بالمقيد. فإذ رجع (صلى الله عليه وسلم) من هذه التغطية، الموجبة لعدم شهود العبوديّة، يستغفر الله تعالى أي يطلب منه الستر و الحيلولة عن ذلك، لأن هذه الحالة ربوبيّة محضة، لا تشهد فيها عبودية، وهي الوقت الذي قال فيه (صلى الله عليه وسلم): ((لي وقت مع الله تعالى لا يَسَعُنِي فيه نبيّ مرسل ولا ملك مقرب)).

يعني لا يتسع لمعرفتي رسول ولا ملك، لأنه حالتئذ ذات محض مطلق عن القيود الخلقية، والانحصارات البشرية، لا يشار إليه بالنظر إلى تلك الحالة باسم، ول وصف، ولا رسم، وفي رواية: ((لا يسعني غير ربي)).

وهذا كان له (صلى الله عليه وسلم) في بداية أمره، فكان يطلب الستر عن ذلك، لأنه (صلى الله عليه وسلم) علم الحكمة في إيجاد هذا الوجود، وأنه تعالى ما أوجده في صورة المغايرة الاعتبارية إلاَّ ليعرفه فيعبده، لأنه تعالى ل يعبد نفسه من حيث هو هو، من غير مغايرة اعتبارية، ولأنه تعالى أحبَّ أن يرى ذاته في صورة غير، لأن رؤيته نفسه في نفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في غير، ولا غير إلاَّ بالاعتبار الذي هو عدم في نفسه، وعرف (صلى الله عليه وسلم) أن الدار دار محنة وتكاليف، لا تصلح لهذه الأحوال، ولا للظهور بأوصاف الربوبيّة لا قولاً ول فعلاً، لضيقها وللتحجير الواقع فيها، ولما يقتضيه الجسم الطبيعي من الحصر والتقييد ومقتضياته الطبيعية، بخلاف الآخرة، فإنها لسعتها ورفع التحجير فيها وعدم الحصر والتقييد الطبيعي، لأنه نشء آخر يكون التظاهر فيها بأوصاف الربوبيّة، ودوام الرؤية له تعالى ـ، والمشاهدة والمحق. فلكماله (صلى الله عليه وسلم) بالعلم الذي م ناله مخلوق غيره أحب أن يعطي كل موطن حقه، ويتظاهر فيه بما يقتضيه. فالكمال والشرف في (هذه الدار) إنما هو الدؤوب على القيام بوظائف العبودية، وأداء ما يجب للربوبية، فإنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلاَّ ليعبدوه، بعد معرفتهم به تعالى ـ، لا سيّما الرسل (عليه السلام) فإنهم زيادة على ما كلّفوا به في خاصتهم، مكلّفون بأداء الرسالة، وتبليغ الأمانة إلى أممهم، ومداومة ملاحظتهم بإرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم. فليس الكمال إلاَّ بشهود ربوبية وعبودية في آن واحد،  حق وخلق، من غير تخلل فتور، غائب وحاضر، ل الجمع يحجب عن الفرق، ولا الفرق يحجب عن الجمع، شرب فازداد صحواً، وغاب فازداد حضوراً، كائن بائن، قال إمام العارفين شيخنا محي الدين:

فليس الكمال سوى كونه

 

فمن فاته ليس بالكامل

ويا قائلاً بالفناء أتئد

وحوصل من السنبل الحاصل

ولا تتبع النفس أغراضه

 

ولا تمزج الحق بالباطل

يريد ليس الكمال سوى شهود خلق قائم بحق لا فناء صرف، فإن الاستهلاك في الحق، بالمشاهدة والفناء والمحق، عدم صرف لا شعور فيه بعبودية أصلاً، فهو تضييع للوقت، الذي لو اشتغل فيه الفاني بالأعمال الصالحة والمجاهدة لزادت مشاهدته ورؤيته للحق تعالى في الدار الآخرة،  التي هي محل الرؤية وموطن المشاهدة و التظاهر بأوصاف الربوبية، ورفع التكاليف والخدمة، ولهذ أن فالأكابر من المتحققين بالوراثة المحمدية من هذه الأحوال، التي تحول بينهم وبين شهود العبودية، ومن التظاهر بصفات الربوبية، وطلبوا الترقي عن ذلك بدوام شهود العبودية، والافتقار والعجز، الذي يرجع إليه كل ممكن، عند نظره إلى أصله ومرتبته الإمكانية، وإذا أنف الكمّل من الورثة التابعين من هذا فكيف بالأنبياء؟! فكيف بسيد الأنبياء وأكملهم (صلى الله عليه وسلم) وعلى إخوانه وآله!..

فعلم ممّا قدمناه: أنَّ زمان الفناء بالمشاهدة عن المخلوقات زمان ترك عبودية يفوت مقامات عظيمة من مقامات الأدب، بل مقامات الآخرة في الرؤية والمشاهدة الخالصة عن كل شوب وأن الدنيا سجن المؤمن، سجنه فيها الملك الحق تعالى . ومن طلب الملك يأتيه في السجن، حتى يراه ويشهده فقد أساء الأدب، بخلاف الآخرة فإنه دار الملك لا سجنه.

والحاصل: أن الكمال الذي هو مقام النبوّة هو الاعتدال، وهو القسطاس المستقيم، الذي أمر الحق تعالى عباده بالوزن به، فمتى غلب النور، الذي هو الحق، على الظلمة التي هي الخلق، زال الاعتدال، فزال الكمال، وذلك غير لائق بمنصب النبوّة الأسمّى، فاستغفاره (صلى الله عليه وسلم) إنّما كان خوفاً من غلبة النور على الظلمة، فطلب البقاء على الاعتدال دائماً، ليؤدي كلّ ذي حق حقّه. فإنَّ الظلمة الطبيعية لها شرف عظيم لأداء العبودية.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!