الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


103. الموقف الثالث بعد المائة

قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[النور: 24/ 35].

أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنَّ الله، الاسم الجامع لجميع الأسماء، من حيث الاسم، النور نور السموات والأرض أي وجودها وقيومها ومظهرها. إذ بالنور ظهر ما كان في ظلمة العدم مستوراً. فلولاه ما أدرك شيء، ولا تميّز شاخص من فيء، فالنور سبب ظهور الكائنات، التي من جملتها الأرض والسموات، كما هو في الحسّ إذا كانت ظلمة الليل تكوّن الأشياء كأنها معدومة بالنسبة إلى المبصرين، فإذا ظهر النور ظهرت الأشياء. وتميّز بعضها من بعض حتى قال بعض الحكماء في الألوان، أنه معدومة في الظلمة، والضوء شرط في وجودها. وإنما خصّ السموات والأرض بالذكر لأن السموات محل الروحانيات، والأرض محل الجسمانيات، والكل مستنير بنور واحد، ل يتجزأ، ولا يتبعّض، ولا ينقسم، ولما كان النور المحض لا يدرك، كما أنَّ الظلمة المحضة لا تدرك،  تجلّى النور على الظلمة ، فَأُدْرِكَت الظلمة بالنور، وأدرك النور بالظلمة. وهو معنى قول القوم: الحق تعالى ظهر بالمخلوقات، وظهرت المخلوقات به. قال الشيخ الأكبر:

فلولاه ولولان

لما كان الذي كان

خلق بلا حق لا يوجد، وحق بلا خلق لا يظهر. وليعلم أن الحق تعالى في ظهوره لذاته، غير متوّقف على المخلوقات، فإنه من حيث الذات غني عن العالمين، وهو غني حتى عن أسمائه، من حيث الذات يتسمّى لمن؟ ويوصف لمن؟ وليس إلاَّ الذات الأحدّية الغنية، ولكن في ظهوره بأسمائه وصفاته بظهور آثارها هو مفتقر إلى المخلوقات، قال الشيخ الأكبر:

الكل مفتقر م

 

الكل مستغني

يعني الحق والخلق، ولا نقص في افتقار الأسماء إلى مظاهرها بل هو عين الكمال الأسمائي الصفاتي، إذ افتقار المؤثر من حيث اسمه مؤثر، إلى الأثر من حيث هو أثر عين الكمال، لأجل امتياز الأسماء بعضها عن بعض، فإنه لا تميز لها إلاَّ بآثارها. والأسماء من الوجه الذي يلي الذات هي غنية عن العالمين، أيضاً، فإنها من ذلك الوجه عين الذات، ولهذا كان كل اسم يوصف ويسمى بجميع الأسماء كالذات. وقد رأيت في بعض المشاهد: رفع لي سجل عظيم منشور ومكتوب في سطر منه الاسم ثم ينعت بجميع الأسماء بعده في ذلك السطر إلى آخر الأسماء، ثم سطر آخر فيه اسم آخر منعوت كذلك بجميع الأسماء إلى آخرها، وهكذا إلى تمام التسعة والتسعين. وأما الأسماء في الوجه الذي يلي العالم فهي مفتقرة إلى العالم، بمعنى طالبة لآثارها، وكل طالب مفتقر إلى مطلوبه، فالسموات والأرض وجميع الكائنات التي نورها الاسم النور، وهي ظلال الأسماء والصفات، والذي ظهر عليه هذا الظل هي الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية، إذ لابدّ للظل من شيء يظهر عليه كالأرض والماء مثلاً، فالنور يظهر الظلّ، والشاخص يرسمه، فالشاخص هو مرتبة الأسماء والصفات، والنور هو الوجود الفائض على الممكنات. ثم أخبر تعالى ـ من يسأل ويقول: هل هذه هي الإنارة الحاصلة للأرض والسموات وجميع الكائنات مباشرة أو بواسطة، وهل باتصال أو اتحاد أو امتزاج، بما ضربه في المثل بالمشكاة والزجاج والمصباح، بأن الإنارة من غير اتحاد ولا امتزاج ولا اتصال، وأن هذه الإنارة بواسطة الحقيقة المحمدّية، التي هي التعين الأوّل وبرزخ البرازخ ومظهر الذات ومجلّى النور، الذي هو نور الأنوار وهي المكنى عنها بالزجاجة. وأمَّا المشكاة فهي جميع الكائنات ما عدا الحقيقة المحمّدية، فإن النور ما سرى من الزجاجة إلاَّ بواسطتها، فالمصباح هو النور الوجودي الإضافي ظهرت به السموات والأرض، و الزجاجة هي الحقيقة المحمّدية، والمشكاة هي جميع الكائنات كما قلنا . ثم أخبر تعالى أنَّ هذه الزجاجة التي هي الواسطة في وصول النور إلى المشكاة الاستعداد التام الذي لا مزيد عليه، حتى قيل: إنها هو، كما قال الصاحب بن عباد:

رق الزجاج ورقت الخمر

فتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

 

وكأنهما قدح ولا خمر

﴿كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ﴾، أي يستمد هذا المصباح، وهو النور الوجودي الإضافي، ﴿مِن شَجَرَةٍ﴾ أي من أصل ومنبع، ﴿مُّبَارَكَةٍ﴾ ثابتة البركة والزيادة لا ينفد مددها، ﴿لَّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾، أي هذه الشجرة التي يستمد منها المصباح لا يقال شرقية من الشروق والإنارة، ولا غربيّة من الغروب والظلمة، فإنها كنه الذات التي ل يحكم عليها بشيء، لأنَّها لا تعقل، والحكم على ما لا يعقل محال، فهي لا شرقية ول غربية، لا وجوب ولا إمكان، ولا حق ولا خلق، ولا حدوث ولا قدم، ولا وجود ولا عدم، فهي ماهيّة لا تظهر بشيء إلاَّ ولها ضده ﴿ يَكَادُ﴾ يقرب ولم يكن ﴿زَيْتُهَا﴾ ما تمد به المصباح المتقدم الذكر ﴿يُضِيءُ﴾ يظهر لذاته بذا ته من غير اقتران بشيء، الاقتران المعنوي، ﴿وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ كناية عن المظاهر التي يقترن بها المكني به بالزيت، الذي هو حقيقة المصباح، و المصباح لا يظهر ضوءه إلاَّ بمماسة النار، فالنار لا تضيء ولا تظهر من غير شيء يثيرها فيكون ممداً لها، وا لشيء لا يظهر من غير مماسة النار.

﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾

أي النور المضاف إلى السموات والأرض، هو عين النور المطلق الذي لا يقيد بالسموات والأرض، فـ "على" بمعنى عن، ﴿يَهْدِي اللَّهُ ﴾ بتعريفه وتجليه، لمن يشاء من عباده ﴿لِنُورِهِ ﴾ المطلق غير المضاف إلى الشيء، ﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾، ليبيّن لهم الأمر، فإنه ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شيءٍ عَلِيمٌ﴾، فيعرف كيف يضرب، وأمَّا الناس فقد قال لهم: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾[النحل: 74].

فحجر عليهم لجهلهم، لأنهم لا يعلمون كيف يضربون الأمثال، و التحجير إنما هو في الاسم الله الجامع، وأمَّا غيره من الأسماء فلا تحجير، و الله أعلم وأحكم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!