The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


54. الموقف الرابع والخمسون

قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق: 50/ 22].

ليعلم أن حال أهل جنة المعارف والمشاهدات مخالف لحال أهل جنة اللذات المحسوسة، في الدنيا والآخرة، لأن أهل جنة المعارف الإلهية أشهدهم الحق أولاً على أنفسهم كغيرهم، فشهدوها فاعلة تاركة مختارة. ولهذا تراهم في بداياتهم يعاقبون أنفسهم إذا حصل منها تقصير، ويشكرونها إذا وفت بالعمل في زعمهم، ولولا شهودهم أن لهم فعلاً وتركاً وقدرة، ما فعلوا بها ذلك.

سأل بعض العارفين مريداً لبعض المشايخ، فقال له: بم يأمركم شيخكم؟ فقال المريد: يأمرنا بالأعمال ورؤية التقصير فيها. فقال له العارف: أمركم بالمجوسية المحضة!! هلا أمركم بالأعمال والغيبة عنها بشهود مجريها؟!... إلى آخر القصة.

ثم إذا رحمهم الله وفتح لهم الباب ودخلوا جنة المعرفة والمشاهدة عرفو أنهم ليس لهم من الأمر شيء، من حيث ظاهرهم ومن حيث أنفسهم، وشهدوا الوهب والمنة فيما كانوا يشهدونه صادراً من أنفسهم، كما شهدوا المنة والوهب الصرف أخيراً، فغابو عن أنفسهم وعن العقل والوهب واستَغْرَقَتْهم مشاهدة الواهب، فاصطفاهم الحق لنفسه، واختارهم لمجالسته.

وأما أهل الجنة المحسوسة، فإنَّ الحق أشهدهم أيضاً كسبهم واختيارهم، فهم يعملون الصالحات وينسبونها لأنفسهم، قاصدين الوصول إلى الجنة المحسوسة، غافلين عن جنة المعارف والمشاهدات، فأبقاهم الحق تعالى على غفلتهم في الدنيا وفي البرزخ وفي الحساب وفي حالة دخول الجنة إلى وقت الرؤية في الكثيب الأبيض. ولذا يقول لهم الحق: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الزخرف: 72].

فنسب الفعل في ذلك الوقت إليهم، تقريراً لغفلتهم وجهلهم ويقول لهم: «اقتسموها بأعمالكم». كما ورد في الخبر، كل هذا تمشية لدعواهم السابقة. حتى إن منهم من يقول له الحق تعالى ادخل الجنة برحمتي، فيقول: لا، بل أدخلها بعملي، ففي ذلك الوقت، ما كشف لهم الغطاء، ولا زال عنهم الحجاب، فهم واقفون مع أنفسهم، ونسبة العمل إليها.

وأما قال تعالى: ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق: 50/ 22].

إذا حمل على الميت، إنما هو كشف عن بعض المغيبات دون بعض. ولا يرفع الحجاب بالكلية وتقع اليقظة التامة إلاَّ بعد رؤية الحق تعالى في الكثيب، لأن الناس في الدنيا نيام، بالنسبة إلى اليقظة الحاصلة بعد الموت في البرزخ. وهم نيام في البرزخ، بالنسبة إلى اليقظة الحاصلة في البعث والحساب. وهم في الحساب نيام، بالنسبة إلى اليقظة الحاصلة في الجنة. وهم نيام بعد دخول الجنة، بالنسبة إلى اليقظة الحاصلة عند رؤية الحق تعالى الرؤية الخاصة في الكثيب. وإنما فعل الحق تعالى ـ مع هؤلاء هذا الأمر، لأنهم ما طلبوا بالأعمال إلا الجنة المحسوسة، وما تشوقو لجنة المعرفة والمشاهدة، ولا سمت همتهم إليها، وماكان مطلوبهم إلا ما تشتهيه الأنفس لا ما تشتهيه الأرواح.

ولا يظلم ربك أحداً، وكانت جنّة المعرفة والمشاهدة لقوم مخصوصين دون عامة المؤمنين، والجنة المحسوسة لعامة المؤمنين، لأن جنّة المعرفة والمشاهدة يدخلها أهلها في الدنيا قبل الموت الحسي وبعد الموت المعنوي. ومحال أن يدخل النار من دخل جنة المشاهدة والمعرفة. وقد سبق العلم القديم والإرادة الأزلية بدخول بعض المؤمنين النار، ثم يخرجون بالشفاعة. فجنّة المعرفة والمشاهدة مثل: لا إ له إلاَّ الله. فلو وضعت كلمة التوحيد في الميزان ما دخل مؤمن النار؛ وإنما توضع في الميزان حسنات المؤمنين غير كلمة التوحيد، ولا توضع كلمة التوحيد في ميزان إلا في ميزان صاحب السجلات خصوصية، فلهذا كانت جنّة المعرفة والمشاهدة مخصوصة بقوم مخصوصين، وهم الذين أراد الحق تعالى بقوله:﴿فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾[الفرقان: 25/ 70].


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!