The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


211. الموقف الحادي عشر بعد المائتين

قال تعالى: ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾[الأعراف: 7/ 99].

الأمن من مكر الله كبيرة، كاليأس من رحمته، وكلّما اتسع نطاق معرفة العارف اشتدَّ خوفه، فالخوف من الله تعالى من لازم المعرفة، وبقدرها، كلما ورد: ((أن أعرفكم بالله وأشدكم له خشية))، خرّجه الشيخان، وخرّج عبد الرزاق ((إني لأرجو أن أكون أتقاكم بالله وأعلمكم به)).

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾[فاطر: 35/ 28].

أي العلماء بالله، لا مطلق العلماء، إذ ما كلّ عالم يخشى، ولا كلّ علم يورث الخشية، وهو من المقامات الملازمة المستصحبة إلى جواز الصراط، وإن اختلفت عليه الأسماء، فسمي عند أهل البدايات خوفاً، والمتوسطين قبضاً، وأهل النهايات هيبة وإجلالاً. فإنَّ النبي أو الولي وإن أطلعه الله على حاله ونهايته في اللوح المحفوظ، أو على عينه الثابتة، فإنه لا يطلع على ما وراء ذلك وفوقه، ولا على م استأثر الله به، كما قال السيد الكامل: أو استأثرت به في علم الغيب عندك. وفي الصحيح، في حديث الشفاعة تقول الرسل يومئذٍ في الموقف: نفسي نفسي. وكل شيء يمنحه الله تعالى أولياء يجوز أن يكون باطنه شراً واستدراجاً ومكراً، كالأحوال والمقامات،  والمكاشفات وخوارق العادات، إلاَّ العلم. فإنّه أفضل ما منح الله به أولياءه، إذ لا يمكن أن يكون حبالة للمكر والاستدراج، أعني علم العلماء بالله تعالى ، لأنه يشهدك إمكانك وافتقارك في كل نفس إلى الله تعالى ، وذلك عبوديتك، ولو غفلت أو نسيت أو ن مت رجعت في ذلك إلى أصل صحيح لا يمكن أن يتبدّل أو يتغير أو ينتقل، فإن انقلاب العلم جهلاً محال.

دخلت مرة خلوة، فعندما دخلتها انكسرت نفسي وضاقت عليَّ الأرجاء وفقدت قلبي، وإذا المعرفة نكرة، والأنس وحشة، والمطايبة مشاغبة، والمسامرة مناكرة، فكان نهاري ليلاً، وليلي ويحاً وويلاً، ومكن الشيطان بالتمريج والتخليط، وأي قربة أردتها أبعدت بها، فلم يبق معي من أنواع الصِّلاَتِ إلاَّ الصَّلاة، وفي أثناء هذ الابتلاء رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المنام، دخلت عليه بَيْتاً كان (صلى الله عليه وسلم) جالساً فيه مع جماعة، فبنفس ما رآني أخذ بطرفي مسبحة كانت في يده، ورفعهما إليَّ وقال" والدعاء" فعرفت أنه يريد أني مشتغل بالذكاء والدعاء فأنشدته:

أتضحك بالدعاء وتزدريه

 

وما يدريك ما فعل الدعاء

سهام الليل لا تخطي ولكن

لها أمد وللأمد انقضاء

فسر (صلى الله عليه وسلم) بإنشاد البيتين، والتفت إلى الحاضرين معه يمدحني لهم، ففهمت من إشارته (صلى الله عليه وسلم) بالدعاء أن الخطب جسيم، والأمر عظيم، فكان بعد ذلك شغلي الدعاء والتضرّع وكشف الرأس، فكنت أدعو بقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((اللّهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك))

وبقوله: (صلى الله عليه وسلم): ((اللهم أنت ربّي، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت))

وبقوله: (صلى الله عليه وسلم) : ((يا حيّ يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شِأني كلّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين))

وكانت ترد عليَّ الواردات في الوقائع، مشيرة وآمرة بالصبر.

ورأيت في المنام جارية بارعة الجمال، فلما أفقت تمنّيت أني سألتها عن اسمها ولمن هي؟

فلما عاودت النوم رجعت إلي فسألتها لمن هي؟ فقالت: لك، وعن اسمها، فقالت: الناجية، فتفاءلت بالنجاة من هذه المحنة، وطالت هذه الأيام فكانت كأنها أعوام:

أرى ساعة الهجران يوماً ويومه

 

يخيّل لي شهراً وشهره عام

بعدما كنت أقول:

أرضى طوال الليالي إن خلوت بهم

وقد أديرت أباريق وأقداح

إلى أن تنفّس صبح الفرج فانجاب الضيق والحرج فقلت:

فما أحلى الأمان بعيد خوف

 

وما أحلى الوصال بعيد هجر

وما أ حلى التداني بعد بعد

وما أحلى اليسار بعيد فقر

الخ الأبيات، وفي آخر أيام هذه الخلوة بشرت، فورد علي أولاً في الواقعة قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾[البقرة: 2/144].

ثم بعده قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 2/30].

ثم بعده قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[البقرة: 2/ 45].

والحمد لله رب العالمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!