The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


140. الموقف الأربعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾[الأعراف: 7/ 88].

قيل لي في الواقعة: ليس المراد من حكاية هذا الكلام عن الذين كفرو بشعيب (عليه السلام) وعن شعيب أنه (عليه السلام) كان معتقداً لعقيدتهم، متبعاً لملتهم قبل نبوّته، ثم خالفهم بعد النبوّة، حاشا وكلاّ، فإن الأنبياء (عليه السلام) مهتدون إلى الحق من أول نشأتهم، مفطورون على محبة الحق وبغض الباطل؛ ففي ول حصول التمييز لهم، وإدراك الضروريات التي يدركها جميع بني آدم، تحصل لهم علوم التوحيد و المعرفة بالله ضرورة كسائر الضروريات، ولا ينكر حصول العلوم الضرورية إلاَّ من فاتته علوم التجلّيات فما ذاقها ولا سلك طريقها. فليس علمهم (عليه السلام) بالله تعالى من طريق نظر عقلي ، ولا ببرهان خفيّ ولا جلّي. وما ورد عنهم ممّا يوهم الاستدلال العقلي، كقول إبراهيم (عليه السلام) : هذا ربّي هذا أكبر، ونحو ذلك. فا لمراد منه غير الاستدلال المعروف، والمقصود منه شيء آخر، عرفه العارفون بأحوال الأنبياء (عليه السلام) وإنما المراد من حكاية ما حكاه الله تعالى أن قومه (عليه السلام) لما رأوه نشأ بين أظهرهم مدة طويلة غير مظهرة لملّة ولا داع إلى عقيدة، إلى أن جاء الأمر الإلهي بالإظهار والدعوة، فتوهموا أنه كان مثلهم، فخاطبوه و الذين آمنوا معه، بما خاطبوهم. وقوله: ﴿ إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم﴾[الأعراف: 7/ 89].

هو جواب منه (عليه السلام) عنه وعن أتباعه، حيث كان خطاب الكفار متوجهاً إليه وعلى أتباعه، وتوهموه كأتباعه، كان في ملتهم ثم خالفهم إلى غيره فأجابهم حسب توهمهم، و أدخل نفسه مع أتباعه في الجواب. وكذا قوله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾[إبراهيم: 14/ 13].

أي قال الذين كفروا من كل ملة، لرسولهم ولمن اتبعه هذه المقالة متوهمين أن الرسول كان قبل الرسالة متبعاً لملتهم، كأتباعه الذين آمنوا معه. وأوحى الله تعالى إلى كلّ رسول: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ﴾[إبراهيم: 13- 14].

إذ لم يكن رسولان لأمة واحدة في وقت واحد غير موسى وهارون، فضلاً عن جماعة. قوله: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا﴾[الأعراف: 89].

أي لا يصح ولا يستقيم لنا. وهذا من جملة إدخال شعيب (عليه السلام) نفسه مع أتباعه المؤمنين تغليباً لهم؛ وأتباعه يجوز عليهم العود في الكفر بعد إظهار الإيمان، إذ الردّة ممكنة في غير المعصومين، وأمَّا المعصومون، إذا صدر منهم شبه هذا الاستثناء؛ فليس هو منهم كما هو من غيرهم، ولكنهم (عليه السلام) تارة يغلب عليهم شهود مرتبة التقييد، وتارة يغلب عليهم شهود مرتبة الإطلاق. فإذا غلب شهود الإطلاق خافوا وانقبضوا و اضطربوا، وقالوا: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَ بِكُمْ﴾[ الأحقاف: 9].وقالوا: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾[الأنعام: 80].

وقالوا: ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا﴾[الأعراف: 89].

وقالوا: نفسي نفسي لا أسألك غيرها، ونحو هذا. وإذا غلب عليهم شهود التقييد انبسطوا، واستبشروا، وبشّروا وقالوا: فلان من أهل الجنة وفلان من أهل النار، وتحكموا في العالم. فما كان خوفهم (عليه السلام) من مرتبة الرحمن، ولا من مرتبة الربّ، بحيث تحكم عليه العقول بأحكامها. وإنما كان خوفهم من الله، أعني مرتبة الغيب المطلب، المسماة "بالله" التي لا يدركها عقل ولا يصح عليه حكم، ولذا قال شعيب: ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾[الأعراف: 89].

ولسعة علمه لا يمكن أن يضبط ويحصر ويقيد فيحكم عليه بنفي أو إثبات. ومن غلبة شهود الإطلاق كان (صلى الله عليه وسلم) يثب في الدرع يوم بدر ويقول: ((اللهم أن تهلك هذه العصابة لن تعبد بعد اليوم)).

بعد وعد الله تعالى له بإحدى الطائفتين كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾[الأنفال: 8/ 7]

وأبو بكر (رضي الله عنه) يقول: يا رسول الله بعض مناشدتك ربّك، فإن الله منجزك ما وعدك. وكان الغالب على الصّديق (رضي الله عنه) ذلك الوقت شهود مرتبة التقييد. فكان بين شهوديهما مابين مرتبتيهما. أعني مرتبة النبوّة والصديقيّة. وروى أن الصديق بكى يوماً خوفاً من الله تعالى فقيل له : أتشك في بشارة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لك بالجنة؟ فقال: : لا، ولكن خشيت أن يكون ذلك موقوفاً على شرط لم أعلمه. وهذا لشهود سعة علمه تعالى ـ.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!